سنوات طويلة عشتها في مدينة إسطنبول التركية، استطاعت خلالها أن تحفر في وجداني وعقلي ملايين التفاصيل الجميلة والقاسية على حدّ سواء. منذ شهرين غادرتها كما هي حال آلاف السوريين الذين غادروا أو يخططون لمغادرتها، وترصد بلا بذل أي مجهود عشرات التعليقات يومياً لأشخاص يشتكون ـ ولهم كلّ الحق _ من قسوة المعيشة في تركيا، ومن القوانين التي لم تعد ترحم السوريّ وكذلك الوضع الاقتصادي وكلفة المعيشة الخيالية بدءاً من إيجار المنزل وليس انتهاءً بثمن الطعام والشراب.
مدينة الإثارة والتنوع والجمال
نغادر المدينة عادة مع ذكرى سيئة في المطار، لا فرق أياً يكن، بسبب معاملة الموظفين الذين يتحولون إلى أسوأ نسخهم عند رؤية جواز السفر السوري، أو الأصول السورية المذكورة على أي جواز سفر آخر، كل هذا واقع، لكن عشق هذه المدينة وحلم زيارتها مرة أخرى لحظة الخروج منها واقع أيضاً، إذ إنها استطاعت أن تمتلك قلوب معظم من زارها أو عاش فيها، تُحفر أزقتها في الذاكرة، لا حيّ يشبه الآخر، فالتنقل في إسطنبول هو انتقال في الزمن بين صروح أثرية عظيمة وحداثة واضحة، لا تخفي المدينة شعبية أحيائها ولا رقيّ أحياء أخرى، وكذلك تلعب طبيعتها الجغرافية دوراً رئيسياً في اكتمال الجمال، ففي إسطنبول البحر والنهر والجبل وتجتمع جميع الفصول في نهار واحد فيها. كما طقسها تمنح المدينة دوماً إثارة ما، هرباً من شرطي، مشادّة كلامية مع سائق تكسي، مشهداً سينمائياً لجارتين تتبادلان الشتائم بسبب قليل من الماء سكبته إحداهما على شرفة الأخرى، وحتى ضمن مكاتبها الرسمية لا بدّ من المفاجآت وقليل من "السيستيم يوك".
للموسيقا أيضاً دورٌ في عشق إسطنبول
لا تكتمل هذه التفاصيل من دون أن يكون في خلفية المشهد مؤثرات موسيقية، فالأتراك بارعون في امتلاك الأذن، حيث تشتهر الأغاني التركية بالتنوع والغنى، واحتوائها على عدة أنماط موسيقية وثقافية ، لكن الشعبية منها الأكثر تأثيراً وقدرة ً على التسلل إلى الوجدان، تلك الأغاني التي تسمعها مصادفةً في مقهىً قديم، أو في سيارة أجرة مع سائق تبدو على ملامحه أنه شرب قسوة المدينة دفعة واحدة، صوت عدنان شانسيس وإبراهيم تاتليس أو سيزين أكسو وكثيرون غيرهم، يجبرونك على عيش كلمات أغنياتهم، والسفر مع اللحن وربما حفظ ما يقولون وترديده من دون إرادة منك، وتتجلى قوّة الانتماء للموسيقا التركية عند مغادرة البلاد، تحديداً تهدأ الروح في مكان بعيد، يعود كثيرون إلى أغانٍ لم يفكّروا يوماً أنّ فيها كل ما يحتاجون إليه في حالة عشق أو شوق أو انكسار.
ينتصر صخبها على المدن الأوربية أجمع
في إسطنبول أيضاً لا داعي لأن تنظر إلى الساعة حتى تخرج من المنزل، دائماً هناك ما تستطيع فعله، في كل الأيام وكل الساعات تجد مكاناً يستقبلك، زحمة المطاعم السورية في حيّ الفاتح أو باشاك شهير أيام الجمعة، وصخب السهرات في تقسيم وكاديكوي وكراكوي وعشرات المناطق الأخرى أيام السبت، نشاطات وأشخاص وبازارات ومراكز تسوّق ضخمة، وأسواق مفتوحة، وروائح السمك والعرق والبهارات وحارات تشبه ما ألفته أعيننا في سوريا، وبالطبع صوت الأذان، بالإضافة إلى دوره الدينيّ، للأذان في إسطنبول سحرٌ موسيقي وأثرٌ في النفس لا يمكن تجاوزه، كل هذا لا يمكن أن يجتمع في مكان آخر، ما يجعل إسطنبول تنتصر بصخبها على المدن الأوروبية أجمع، في هذه المدينة تشعر بأنك جزء من الحشود بغض النظر عن انتمائك.
لها علينا أن نقول الحقّ في جمالها دوماً
أبهرت إسطنبول كثيراً من الكتّاب والشعراء والأدباء، فما بالك بنا! كيف لنا أن ننكر حقيقة جمالها وأثرها وتأثيرها، من يستطيع إنكار ما لها من متعة وقسوة ومافيها من شغف وحبّ وتعب؟ كيف تكون المدن كاملة إن لم تكن هكذا؟ إن لم تستطع أن تزرع فيك شعورَ أنّك منفيٌّ بعيداً عنها، وإن لم تجبرك على التفكير في زيارتها ولو لليلة واحدة، فسلام عليها وعلى من فيها، وجمعَ بينها وبين عشاقها رغماً عن الأوراق والترحيل والعنصرية وألفِ مانعةٍ أخرى.